قصيدة نبكي الشباب
يقول الشاعر ابن الرومي:
نحن نبكي على الشباب بسبب احتياجات النساء، إذ أن فيه مشاعر أخرى سأبكيها أيضاً.
أبكي الشباب لجمال كان يثير إعجابي، حينما كانت عيوني ترى ملامحه.
ما كانت أعظم عندي نعمة الربيع، ليس فقط لجمال الخدود التي كانت تأسرني.
كانت لعيني رؤية رائعة دون باقي العيون التي كانت تفتنني.
ما كان أكثر إعجاب النساء به، والنفس أولى بالإعجاب بما تحتويه.
كم كان يبدع من نظر يُفرحني، وكان يُقفز من نظرة أخرى تُحزنه.
كم كان يُشعل الصفاء في عيني، حتى متى ما نظرت فيها تعود لحالتها الأولى.
تبدأ النساء برميه بنظراتهن، وسط السهام التي يطلقنها عليه.
يثني على نبلهن ظناً منه أنه ليس هناك ما يُعيبهن.
أبكي الشباب لذاتي ولذات الهوايات التي تتجلى، إذا انشغل عني وترك مرافقتي.
هناك حيث لم تعُد ميعة الشبان تثيرني، ولا النفس تستسلم لرغبتي.
فإذا غدوتُ فكنت كالعاجز، يُجرح ويُحبس في نفسه.
أبكي الشباب لجمال الحياة إذا غنت القيان وقدم لها الساقي الشراب.
هناك لم أكن مرتاحاً في شربها، ولا أخا سلوة أستثير بهجة حياتي.
كم كانت أنفاسي المتألمة تتفاعل عندئذٍ، خوفاً من أحزاني التي أُخفيها.
أبكي الشباب لنفسٍ كانت ترحب بكافة الملذات التي سعى لتحقيقها.
أبكي الشباب لآمال عذبتني، التي كانت حلاوة المعاني لها.
أبكي الشباب لنفس لم تعد ترى بديلاً ولا تعويضاً عما كان يسعدها.
أبكي الشباب لعيون قد صنفنا بها، بعدما أصابها الشعور بالحنين.
عين عاشت في صفاء عظيم، الآن تستحق الصمت والتجديد.
أبكي الشباب لت耳ٍ عوَّدت مجراها، وقد يصير الصوت بعيداً.
أذن مهما بلغت قلة سمعها، فإنها لا تنسى بقايا الأسماء.
أبكي الشباب ليد كانت تحتضن، وقد تُرد وتُثني بعض الأحيان.
يد اعتدنا أن تثمر لنا، والآن قد نالت ندوب الزمن.
كان الشباب وقلبي فيه منغمس، وسط فرجة لا أعلم لها سبباً.
نسيم من الحياة كان يُحافظ عليها، كبرودة النسيم يُنبت الحياة.
كأن نفسي كانت تسير في روضة، حيث ينساب الماء كالمطر.
كأنني كنت ألتقي بمعاني، تُحيي لي ذكرى ذكريات الماضي.
من يموت قد مات كما قيل احتياجاته، إلا الشباب واحتياجاته التي تدوم.
يمضي الشباب ويبقى من آثاره، تعبٌ على النفس يجره ويُعانيه.
ليت التدابير كانت تنقضي معه، أو أن يبقى ويبقى الزمن دوماً.
كلا، لكنه يمضي وقد بقيت في النفس، بقايا يُعانيها على مر العصور.
وإن كنتُ أبرح ما تسلِّمَت بحضورٍ، لكن البقايا لا تستطعُ أن تُنسى.
وكانت النفس تُجهد بمجرد أن غوت، فهي الآن تُشرف على نفسها وتُخبر.
قصيدة وا حرَّ قلباه
يقول الشاعر المتنبي:
وَاحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ، ومَن بجسمي وحالي عنده سَقَمُ.
ما لي أُكَتِّمُ حُبًّا قَدْ بَرَى جَسَدي، وتَدّعي حُبَّ سَيفِ الدَّوْلَةِ الأُمَمُ.
إن كان يجمعنا حُبٌّ لغرته، فليت أنّا بقدر الحُبّ نَقتَسِمُ.
قد زُرْتُهُ وسُيُوفُ الهند مُغْمَدَةٌ، وقد نظرتُ إليه والسيوف دَمُ.
فكان أحسن خلق الله كُلّهِمِ، وكان أحسن ما في الأحسن الشيَمُ.
فوت العدوّ الذي يَمّمته ظَفَرٌ، في طيّه أسفٌ في طيّه نعمُ.
قد ناب عنك شديدُ الخوف واستنعت لك المهابَةُ ما لا تصنع البُهَمُ.
ألزمتَ نفسكَ شيئًا ليس يلزمها، أن لا يُوارِيَهُم أرضٌ ولا علمُ.
أكلما رُمْتَ جيشًا فانثنى هربًا، تصرّفتْ بك في آثارِهِ الهمَمُ.
عليك هزْمُهم في كل مُعْتَرَكٍ، وما عليك بهم عارٌ إذا انهَزموا.
أما ترى ظفرًا حلوًا سِوى ظفرٍ، تصافحت فيه بيضُ الهند واللِّممُ.
يا أعدل الناس إلا في معاملتي، فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ.
أُعيذُها نظراتٍ منك صادقةً، أن تحسبَ الشحمَ فيمن شحمه وَرَمُ.
وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظره، إذا استوت عنده الأنوارُ والظلمُ.
سيعلم الجمعُ ممن ضمّ مجلسنا، بأنّي خيرُ من تسعى به قَدَمُ.
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي، وأسْمَعَتْ كَلِماتي مَن به صَمَمُ.
أنامُ مِلءَ جُفوني عن شوارِدهَا، ويسهَرُ الخَلْقُ جراها ويختصمُ.
وجاهلٍ مدّه في جهله ضحكي، حتى أَتَتْه يَدٌ فَرَّاسةٌ وفمُ.
إذا رأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيثِ بارزةً، فلا تظنَّنّ أنّ اللَّيثَ يبتسِمُ.
ومهجةٍ مُهجتي مَن همّ صاحبها، أدرَكْتُها بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ.
رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ واليدانِ يدٌ، وفعلُه ما تريدُ الكفُّ والقَدمُ.
ومرهفٍ سرْتُ بين الجحفلَيْنِ به، حتى ضرَبتُ ومَوْجُ المَوْتِ يَلْطَطِمُ.
الخيلُ والليلُ والباديةُ تعرفني، والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ.
صحبتُ في الفَلَواتِ الوحشَ منفرِدًا، حتى تعجَّبَ مَنّي القُورُ والأكمُ.
يا مَن يَعزُّ علينا أن نفارِقَهُم، وجدانا كلَّ شيءٍ بعدكم عَدَمُ.
ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ، لَوْ أنّ أمركُم مِن أمرِنَا أُمَمُ.
إنْ كان سَرُّكم ما قالَ حاسدُنا، فمَا لجرحٍ إذَا أرضَاكُم أَلَمُ.
وبيننا لو رَعَيْتُم ذاكَ مَعْرِفَةٌ، إنّ المعارفَ في أهلِ النّهى ذِمَمُ.
كم تطلبونَ لنا عيبًا فيُعجِزُكُم، ويَكرهُ الله ما تأتونَ والكرمُ.
ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ من شَرَفِي، أنا الثُريّا وَذانِ الشيبُ والهَرمُ.
ليت الغمامةَ التي عندي صواعقُه، يُزيلهُنَّ إلى من عنده الديمُ.
أرى النوى يقتضيني كلَّ مرحَلَةٍ، لا تستقلُّ بها الوَخادةُ الرّسُمُ.
لئن تركن ضميرًا عن مَيامِنِنَا ، ليحدِثَنَّ لمن ودعتُهُم نَدَمُ.
إذا ترحّلتَ عن قومٍ وقد قدرُوا، أن لا تَفَارِقَهُم فالرّاحلونَ هُمُ.
شرُّ البلاد مكانٌ لا صديِقَ بِهِ، وشرُّ ما يكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ.
وشرُّ ما قنّصَتْهُ راحتي قنصٌ، شُهبُ البزاة سواءٌ فيهِ والرَّخَمُ.
بأيّ لَفظٍ تقولُ الشعرَ زَعِنْفَةٌ، تجُوزُ عندكَ لا عُرْبٌ ولا عَجمُ.
هذا عِتابُكَ إلا أنّه مُقَةٌ، قد ضُمِّنَ الدُرَّ إلا أنّهُ كَلِمُ.
قصيدة أبت عبراته إلا انسكاباً
يقول الشاعر أبو العلاء المعري:
أبَت عَبَراتُهُ إلا انسكابًا، ونارُ غَرامِهِ إلا التِهابا.
ومن حق الطلول عليَّ ألا أغيبَ، من الدموعِ لها سحابا.
وما قصّرتُ في تساءل ربعٍ، ولكنّي سألتُ فما أجابا.
رأيتُ الشيبَ لاحَ فقلتُ أهلاً، ودَعتُ الغوايةَ والشبابا.
وما إني شِبتُ من كِبرٍ ولكن، رأيتُ من الأحبةِ ما أَشابا.
بعثنَ من الهمومِ إليَّ ركبًا، وصيّرنَ الصدودَ لها رِكابا.
ألم تَرَنا أعزَّ الناسِ ثانيةً، وأمْرَعَهم وأمنعهم جنابا.
لنا الجَبَل المُطلُّ على نزارٍ، حللنا النجدَ منه والهضابا.
تُفضّلُنا الأنامُ ولا تُحاشي، ونُوصَفُ بالجَميلِ ولا نُحابى.
وقد علمت ربيعةُ بل نزارٌ، بأنّا الرأسُ والناسُ الذُّنابى.
ولمّا أن طغت سُفَهاءُ كعبٍ، ففتحنا بيننا للحربِ بابا.
منحناها الحرائبَ غيرَ أننا، إذا جارَت مِنَحناها الحِرابا.
ولمّا ثار سيفُ الدينِ ثُرنا، كما هيّجتَ أسادًا غِضابا.
أسِنَّتُهُ إذا لاقى طِعانًا، صوَارِمُهُ إذا لاقى ضِرابا.
دَعانا والأَسِنَّةُ مشرَعاتٌ، فكُنّا عندَ دَعوتِهِ الجوابا.
صنائعُ فاق صانِعَها فاقَت، وغَرْسٌ طابَ غارسُهُ فطابا.
وكُنّا كالسّهام إذا أصابت، مراميها فَرَمْيها أصابا.
قطعنَ إلى الجبّارِ بنا معانًا، ونيكبنَ الصُبَيْرَةَ والقبابا.
وجاوزنَ البديعةَ صادياتٍ، يُلاحِظنَ السَّرابَ ولا سَرابا.
عَبَرنَ بمَاسِحٍ والليلُ طفلٌ، وجئنَ إلى سَلَميَةَ حينَ شابا.
وقد قاد ندي إبنُ جعفرَ من عُقيلٍ، شعوبًا قد أسالَ بها الشِعابا.
فما شعروا بها إلا ثباتًا، دوّينَ الشَدَّ تصطخبُ اِصطِخابا.
تناهبنَ الثناءَ بصبرِ يومٍ، به الأرواحُ تُنْتَهَبُ انتِهَابا.
تَنادوا فأنْبَرَت مِن كُلِّ فَجٍّ سَوابِقُ يُنتَجَبنَ لنا إنتِجابا.
فما كانوا لنا إلا أَسارى، وما كانت لنا إلا نِهابا.
كَأنَّ نَدي ابنَ جعفرٍ قادَ منهم هَدايا لم يُرَغ عَنهَا ثَوابا.
وشدّوا رأيهم ببني قُرَيعٍ، فخابوا لا أبا لهم وخابا.
وسُقناهُم إلى الحيرانِ سوقًا، كما نَستاقُ آبالًا صِعابا.
سَقَيْنا بالرماحِ بَني قُشَيرٍ، ببطْنِ العُثيَرِ السُّمَّ المُذابا.
فلمّا اشتدَّتِ الهَيجاءُ كُنّا، أشَدَّ مَخَالِبًا وأَحَدَّ نابا.
وأمنعَ جانِبًا وأعزَّ جارًا، وأوفى ذِمَّةً وأقلَّ عابا.
ونكَبنَا الفُرُقلُسَ لم نَرِدهُ، كأنَّ بنا عن الماءِ اجتِنابا.
وأمطَرنَا الجِباهَ بمُرجَحٍ، ولكن بالطِعانِ المُرِّ صابا.
وجُزنَ الصَحصَحانِ يَخِدنَ وَخدًا، ويجتنبنَ الفَلاةَ بنا اجتِنابا.
ومِلنا عن الغُوَيرِ وسِرنا حتى، وردنَ عيُونَ تَدمُرَ والجِبابا.
قرَينا بالسماوةِ مِن عُقيلٍ، سِباعَ الأرضِ والطيرِ السِغابا.
وبالصَبّاحِ والصبَاحُ عَبدٌ، قتلنا مِن لُبابِهِمُ اللُبابا.
ترَكنا في بيوتنا نَوادبَ، ينتَحِبْنَ بها انْتِحَابا.
شَفَت فيها بَنو بَكرٍ حُقودًا، وغادَرَت الضَبَابَ بِها ضَبابا.
وأبعدنا لسُوءِ الفِعلِ كعبًا، وأدنّينا لطاعتِها كِلابا.
وشرّدنا إلى الجولانِ طَيئًا، وجَنَّبنا سَمَاوَتَها جِنابا.
سحابٌ ما أَخَذَ على عُقيلٍ، وجَرَّ على جِوارِهِمُ ذُبابا.
ومِلنا بالخُيولِ إلى نُمَيرٍ، تُجاذبُنا أَعِنَّتَها جِذابا.
بكلِّ مُشَيِّعٍ سَمحٍ بنفسٍ، يَعِزُّ على العَشيرَةِ أن يُصابا.
وما ضاقَت مَذاهِبُهُ ولكن، يُهابُ مِنَ الحَمِيَّةِ أن يُهَابا.
ويأمرَنا فَنَكفيهِ الأعداءَ، همامٌ لَو يَشاءُ كفى ونابا.
فلما أيقنوا أنّ لا غِياثٌ، دَعَوهُ للمَغوثَةِ فاستَجابا.
وعادَ إلى الجَميلِ لهم فَعادوا، وقد مُدّوا لِصارِمهِ الرِقابا.
أمرَّ عليهم خَوفًا وأمنًا، أذاقَهُمُ بهِ أريًّا وصابا.
أحَلّهُمُ الجزيرةَ بعد يأسٍ، أخو حِلْمٍ إذا مَلَكَ العِقابا.
ديارُهُمُ انتَزَعناها انْتِزاعًا، وأرضُهُمُ اغتَصَبنَها اغتِصابًا.
ولو شِئنا حَمَيناها البوادي، كما تحمي أُسودُ الغابِ غابا.
إذا ما أَنهضَ الأُمراءُ جيشًا، إلى الأعداءِ أَنفَذنا كِتابا.
أنا ابن الضارِبينَ الهامَ قِدَمًا، إذا كرِهَ المُحامونَ الضِرابا.
أَلَم تَعلَم ومثلُكَ قالَ حَقًّا، بأنّي كنتُ أَثقبَها شِهابًا.
قصيدة يسلم المرء أخوه
يقول الشاعر أبو العتاهية:
يسلم المرء أخوه، للمنايا وأبوه.
وأبو الأبناءِ لا يبقى، ولا يبقى بنوه.
ربّ مذكور لقومٍ، غابَ عنهم فنَسوه.
وإذا أفنى سنيه، المرء أفنته سِنونُ.
وكأن بالمَرء قد يبكي، عليه أقرَبوهُ.
وكأن القومَ قد كاموا، فقالوا أدرِكوهُ.
سائلوهُ كلِّمُوهُ، حَرِّكوهُ لَقِّنوهُ.
فإذا استيأسَ منه القومُ،، قالوا حرِّفوهُ.
حرِّفوهُ وجِّهوهُ، مَدِّدوهُ غَمِّضوهُ.
عَجِّلوهُ لرحيلٍ، عَجِّلوا لا تَحبِسوهُ.
ارفعوهُ غسِّلوهُ، كَفِّنوهُ حنِّطوهُ.
فإذا ما لُفَّ في الأكفانِ، قالوا فاحملوهُ.
أخرِجوهُ فوق أعوادِ المنايا شيِّعوهُ.
فإذا صَلَّوا عليه، قيلَ هاتوا وَاقبروهُ.
فإذا ما استودَعوهُ الأرضَ رَهْنًا، تَرَكوهُ.
خَلَّفوهُ تَحتَ رَدمٍ، أوقَرُوهُ أَثْقَلوهُ.
أبعَدوهُ أَسحَقوهُ، أوحَدوهُ أَفرَدوهُ.
ودعوهُ فارَقوهُ، أسلموهُ خَلَّفوهُ.
وانثنوا عنهُ وخَلّوهُ كأن لم يعرِفوهُ.
وكأن القومَ فيما كانَ فيه لم يلوهُ.
ابْتَنى الناسُ من البُنْيان ما لم يَسكُنوهُ.
جمعَ الناسُ من الأَموالِ ما لم يأكُلوهُ.
طلبَ الناسُ من الأموال ما لم يُدركوهُ.
كُلُّ مَن لم يجعلِ الناسَ إماماً تَركوهُ.
ظَعَنَ الموتى إلى ما قدَّموا فوجدوهُ.
طابَ عيشُ القومِ ما كانَ إذا القومُ رَضوهُ.
عِشْ بما شِئتَ فَمَن تَسْرِهُ دُنياهُ تسوهُ.
وإذا لم يُكرمِ الناسَ امْرُؤٌ لم يُكرِموهُ.
كُلُّ مَن لم يَحتجِ الناسُ إليه صَغَّرُوهُ.
وإلى مَن رَغبَ الناسُ إليه أَكبَروهُ.
مَن تَصَدّى لأخيهِ بالغنى فهو أخوهُ.
فهو إن ينظُر إليه، يَرءَ مِنهُ ما يسوهُ.
يُكرمُ المرءُ وإن أملَقَ أَقْصاهُ بنوهُ.
لو رأى الناسُ نبيًّا سائلاً ما وَصَلوهُ.
وهمُ لو طَمِعوا في زاد كلبٍ أَكَلُوهُ.
لا تَراني آخِرَ الدَهرِ بتسألٍ أَفوهُ.
إنّ من يسأَل سوى الرحمِ من يكثُر حارموهُ.
والذي قامَ بأرزاقِ الوَى طُرًّا سَلُوهُ.
وعن الناسِ بفضلِ اللهِ فَاغنُوا واحمِدوهُ.
تلبَسوا أثوابَ عِزٍّ فاسمعوا قولي وَاعوا.
إنما يُعرفُ بالفَضلِ مَنِ الناسِ ذَووهُ.
أفضَلُ المَعروفِ ما لم تُبتذَل فيهِ الوجوهُ.
أنتَ ما استغنيتَ عن صاحبِكَ الدهرَ أخوهُ.
فإذا احتجتَ إليه ساعَةً مجَّكَ فوهُ.
قصيدة صوت صفير البلبل
يقول الأصمعي:
صوتُ صفيرِ البُلبُلِ، هيَّجَ قَلبي التَمِلِ.
الماءُ والزهرُ معًا، مع زهرِ لحظِ المُقَلِ.
وأنتَ يا سيدَ لي، وسيدي ومولى لي.
فكم فكم تَيَمَّنِي، غُزَيِّلٌ عَقَيقَلِي.
قطّفْتَهُ مِن وَجنَةٍ، مِن لَثمِ وَردِ الخَجَلِ.
فقالَ لا لا لا لا، وقد غدا مُهَرولِ.
والخُوذُ مالَت طَرَبًا، مِن فِعْلِ هَذا الرّجُلِ.
فَوَلوَلَت ووَلوَلَت، وَلي وَلي يا وَيلَ لي.
فقلتُ لا تُوَلوِلي، وَبينِي اللُؤلُؤَ لَي.
قالت لَهُ حينَ كَذا، اِنْهَض واجد بالنقَلِ.
وَفِتيةٍ سَقَونَنِي، قهوةً كالعَسَلَ لي.
شَمَمتُها بِأَنَفي، أزكى مِنَ القَرَنفُلِ.
في وَسطِ بُستانٍ حُلِي، بالزَهرِ والسُرورُ لِي.
والعودُ دندَن دَنا لِي، والطبلُ طَبطَب طَبَ لِي.
طَب طَبِطَب طَب طَبَطَب، طَب طَبَطَب طَبطَبَ لِي.
والسَقفُ سَق سَق سَق لِي، والرقصُ قَد طابَ لِي.
شَوى شَوى وَشاهشُ، على حِمارِ أَهزَلِ.
يمشي على ثلاثَةٍ، كَمَشيَةِ العَرَنجلِ.
والناسِ تَرجم جَمَلِي، في السُواقِ بِالقُلقُلَلِ.
والكُلُّ كَعكَع كَعِكَع، خَلْفي ومِن حُوَيلَلي.
لكن مَشَيتُ هارِبًا، مِن خَشْيَةِ العَقَنْقِلِي.
إلى لِقَاءِ مَلِكٍ، مُعَظَّمٍ مُبَجَّلِ.
يَأْمُرُ لي بخَلْعَةٍ، حمراء كالدّم دَملي.
أجرُّ فيها ماشِيًا، مُبَغَدِدًا لِلذِيِّلِ.
أنا الأَدِيبُ الأَلمَعِي، مِن حَيِّ أَرضِ الموصِلِ.
نظمتُ قِطعًا زُخرِفَت، يعجزُ عَنها الأَدبُ لِي.
أقولُ في مَطلَعِها، صوتُ صفيرِ البُلبُلِ.
قصيدة لأي حبيب
يقول أبو تمام:
لأيِّ حبيبٍ يَحسُنُ الرأيُ والوّدُ، وأكثَرُ هَذا الناسِ ليسَ لهُ عَهْدُ.
أرى ذمّي الأيّامَ ما لا يضرُّها، فهل دافِعٌ عَنّي نَوائِبَها الحَمدُ؟
وما هذه الدُنيا لنا بمُطيعَةٍ، وليسَ لخلقٍ مِن مُداراتِها بُدٌ.
تحوزُ المَعالي والعبيدُ لعاجزٍ، ويخدُمُ فيها نفسَهُ البطلُ الفَردُ.
أكلُّ قريبٍ لي بعيدٌ بِوِدِّهِ، وكلُّ صَديقٍ بَينَ أضلاعِه حِقدُ.
وللهِ قَلبٌ لا يبلُّ غليلَه، وصالٌ ولا يُلهيهِ عن خِلِّهِ وَعدُ.
يكَلِّفُني أن أطلبَ العِزّ بالمُنَى، وأينَ العلى إن لم يُساعِدنِيَ الجَدُ؟
أحنُ وما أهواهُ رُمحٌ وصارِمٌ، وسابِغَةٌ زُعفٌ وذو مَيعَةٍ نَهدُ.
فيا ليَ مِن قَلْبٍ مُعَنّىً بِهِ الحَشا، ويا ليَ مِن دَمعٍ قَرِيحٍ بِهِ الخَدُ.
أُريدُ مِنَ الأيّامِ كُلَّ عَظيمةٍ، وما بينَ أضلاعي لها أَسَدٌ وَردُ.
وليسَ فتىً مَن عاقَ عن حَمْلِ سَيفِهِ، إِسارٌ وحَلَّاهُ عنِ الطَلَبِ القِدُّ.
إذا كانَ لا يَمضي الحُسامُ بنَفْسِهِ، فللضارِبِ الماضي بقائِمِهِ الحَدُ.
وحوليَ مِن هَذا الأنامِ عِصابَةٌ، تُودِّدُها يَخفى وأضغانُها تبدو.
يَسُرُّ الفَتى دهرٌ وقد كانَ ساءَهُ، وتَخدمُهُ الأيّامُ وَهوَ لها عَبدُ.
ولا مالَ إلّا ما كَسَبتَ بِنَيلِهِ، ثناءً ولا مالٌ لمَن لا لهُ مَجدُ.
وما العيشُ إلّا أن تُصاحِبَ فتيّةً، طَواعِنَ لا يَعنيهِمُ النَّحسُ والسَعدُ.
إذا طَرِبوا يَوماً إلى العِزِّ شَمَّروا، وإن نُدِبوا يَوماً إلى غارَةٍ جَدّوا.
وكم ليَ في يَومِ الثَوِيَّةِ رَقدةٌ، يُضاجِعُني فيها المُهَنَّدُ والغِمدُ.
إذا طلبَ الأعداءُ إثري بِبَلدةٍ، نَجوتُ وقد غَطّى على أَثَري البُردُ.
ولو شاءَ رُمحي سَدَّ كُلَّ ثَنِيَّةٍ، تُطالِعُني فيها المَغاويرُ والجُردُ.
نَصَلنا على الأَكوارِ مِن عَجزِ لَيلَةٍ، تَرامى بِنا في صَدرِها القورُ والوَهدُ.
طَرَدنا إلىَها خُفَّ كُلِّ نَجيبَةٍ، عليها غُلامٌ لا يُمارِسُهُ الوَجدُ.
ودُسنا بِأيدي العيسِ لَيلاً كَأَنَّما، تَشابَهَ في ظُلمائِهِ الشيبُ والمَردُ.
أَلا لَيتَ شِعري هَل تُبَلِّغُني المُنى، وتَلْقَى بِي الأعداءَ أَحصِنَةٌ جُردُ.
جِيادٌ وقد سَدَّ الغُبارُ فُروجَها، تَروحُ إِلى طَعنِ القَبائِلِ أَو تَغدو.
خِفافٌ عَلى إِثرِ الطريدَةِ في الفَلا، إذا ما جَتِ الرَمضاءُ وَاِختَلَطَ الطَردُ.
كَأنَّ نُجومَ اللَّيلِ تَحتَ سُروجِها، تَهاوى عَلى الظَلماءِ وَاللَّيلُ مُسوَدُ.
يُعيدُ عَلَيها الطَعنَ كلُّ ابنِ هِمَّةٍ، كأنَّ دَمَ الأعداءِ في فَمِهِ شَهدُ.
يُضارِبُ حَتّى ما لِصارِمِهِ قُوىً، ويطعَنُ حَتّى ما لِذابِلِهِ جَهدُ.
تَغَرَّبَ لا مُستَحقِباً غَيرَ قوتِهِ، ولا قائلاً إِلّا لِما يَهَبُ المَجدُ.
ولا خائفًا إِلّا جارِرَةَ رُمحِهِ، ولا طالِبًا إِلّا الذي تَطلُبُ الأُسدُ.
إذا عَرَبيٌّ لم يَكُن مِثلَ سَيفِهِ مَضاءً عَلى الأعداءِ أنكرَهُ الجَدُّ.
وما ضاقَ عنه كلُّ شَرْقٍ ومَغرِبٍ، مِنَ الأَرضِ إِلّا ضاقَ عَن نَفسِهِ الجِلْدُ.
إذا قَلَّ مالُ المَرءِ قَلَّ صَديقُهُ، وفارَقَهُ ذاكَ التَحنُّنُ والوُدُّ.
أصبح يُغضي الطَرفَ عَن كُلِّ مَنظَرٍ، أنيقٍ ويُلهيهِ التَغرُّبُ والبعُدُ.
فما لي وللأيامِ أَرضى بِجَوْرِها، وتَعْلَمُ أنّي لا جَبانٌ ولا وَغدُ.
تغاضى عُيونُ الناسِ عَنّي مَهابَةً، كما تتَّقي شمس الضّحى الأعيُنُ الرُمدُ.
تَخطَّت بِيَ الكُثبانَ جَرداءَ شَطبَةٌ، فَلا الرَعْيُ دَانٌ مِن خُطاها وَلَا الوِردُ.
تُدافِعُ رِجلاها يَدَيها عَنِ الفَلا، إلى حيث يُنمى العِزُّ والجَدُّ والجِدُ.
فجاءَتكَ ورهاءَ العِنانِ بِفارِسٍ، تَلَفَّتَ حتى غابَ عن عَينِهِ نَجدُ.
ومِثلُكَ مَن لا تُوحِشُ الرَّكبَ دارُهُ، ولا نازِلٌ عَنْها إِذا نَزَلَ الوَفدُ.
فيا آخِذًا مِن مَجدِهِ ما استحَقَّهُ، نَصيبُكَ هذا العِزِّ والْحَسَبُ العِدُّ.
أبٌ أنتَ أَعلى مِنهُ في الفَضلِ والعُلى، وأمضى يَدًا والنارُ والِدُها زَندُ.
وما عارضٌ عُنوانُهُ البيضُ والقَنا، أخو عارضٍ عُنوانُهُ البَرقُ والرَّعدُ.
وكم لك في صدرِ العدوِّ مرَشَةٌ، يُخَضِّبُ منهُ الرَمحَ مُنبَعِقٌ وَردُ.
وفوقَ شَواةِ الذِمرِ ضَربَةُ ثائِرٍ، يكادُ لهُ السيفُ اليمنِيُّ يَنقَدُ.
يَوَدُّ رِجالٌ أَنَّني كنتُ مُفحَماً، ولولا خِصامي لم يَوَدوا الَّذي وَدّوا.
مَدَحتُهُمُ فاستُقبِحَ القَولُ فيهِمُ، أَلا رُبَّ عُنقٍ لا يَليقُ بِهِ عِقدُ.
زَهِدتُ وزُهدي في الحياةِ لِعِلّةٍ، وحُجَّةُ مَن لا يَبلُغُ الأملَ الزهدُ.
وهانَ على قَلبي الزَمانُ وَأَهَلُهُ، ووِجدانُنا وَالمَوتُ يَطلُبُنا فَقدُ.
وأرضى مِنَ الأيامِ أَن لا تُميتَنِي، وَبي دون أقراني نَوائِبُها النُكدُ.