التوبة
تتطلب التوبة إرادة قوية، خصوصًا بعد الاعتياد على ارتكاب المعاصي والذنوب. كما يلعب الشيطان دورًا في إبعاد الإنسان عن سلوك التوبة، حيث يخشى من الفضيحة أو الافتضاح أمام رفقاء السوء. وقد أوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: (تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودَ مُربَدًا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه). يُظهر هذا الحديث أن الإنسان في حالة ارتكاب المعاصي يمكن أن يكون إما متقبلاً لها، مما يُسجل في قلبه نكتة سوداء، أو مرفوضًا لها، مما يُسجل في قلبه نكتة بيضاء، تعبيرًا عن رضا الله -عز وجل-. وقد وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- القلب الذي يميل إلى المعاصي بالكوب المنكوس الذي لا فائدة منه.
تتحقق التوبة من خلال الاعتراف بالذنوب، وقد تكرر ذكر الاعتراف في القرآن الكريم كسبيل للتوصل إلى الرحمة ومغفرة الذنوب. فالمعترف يُدرك خطأه وندمه ويسعى إلى طلب المغفرة من الله تعالى، لأنه يعلم علم اليقين أن القوة بيد الله -عز وجل- وأنه سبحانه القادر على المسامحة وقبول التوبة. كما قال العز بن عبد السلام: (الاعتراف بالذنوب استكانة لعلام الغيوب، موجبة لعطفه ولطفه، بغفر الذنوب، وستر العيوب). ويعتبر الإعراض عن الذنب والندم عليه مع العزم على عدم العودة إليه من أبرز صور الاعتراف.
أثر المعاصي والذنوب على العبد في الدنيا والآخرة
قدَر الله -تعالى- أن كل ابن آدم خطاء، وأفضل المخطئين هم الذين يسارعون إلى التوبة. فالذنوب والمعاصي تؤدي إلى زوال النعم ووقوع العقوبات التي تتوزع إلى عقوبات شرعية وقدرية، حيث تؤثر هذه العقوبات على القلب أو الجسد أو كليهما. يمكن أن تحدث بعض هذه العقوبات بعد الوفاة أو يوم المحشر، ولا يجوز ترك الذنوب دون محاسبة، على الرغم من اعتقاد البعض خلاف ذلك. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الرجلَ ليُحرَمُ الرزقَ بالذنبِ يصيبُهُ، ولا يردُّ القدرَ إلا الدعاءُ، ولا يزيدُ في العمرِ إلا البرُّ). ومن صور هذه الأضرار:
- الحرمان من نور العلم، الذي يُعتبر من أشكال النعمة المعجلة، حيث أن ارتكاب الذنوب يعيق النور في بصيرة الإنسان. فعندما أعجب الإمام مالك بذكاء تلميذه الإمام الشافعي -رحمهما الله- قال له: (إني أرى أن الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية).
- الشعور بالوحشة في القلب، حيث تنشأ الفجوة بين العبد وربه، وتمتد إلى علاقته مع الآخرين، حتى يشعر بهذا الفراغ أقرب الناس إليه. فلا يستطيع الاستفادة من مجلس الصالحين، بل يميل أكثر إلى مجالس السوء، مما يجعل حياته مريرة.
- الشعور بالافتقار إلى التوفيق في الحياة والركود في الأعمال، حيث يجد الأبواب موصدة أمامه، على عكس من يتقي الله -عز وجل- فهو يجد مخرجًا من كل هم.
- الضعف الجسدي، إذ يجد المؤمن قوة في قلبه تعكس على بدنه، بينما قد يكون المعصية قويًا في المظهر لكنه ضعيف في الأوقات الحرجة.
- الحرمان من الرزق، فكما أن الرزق مرتبط بتقوى الله، فإن كثرة الذنوب تجعل الإنسان في حالة فقر.
- نزع البركة من العمر، فالذي يميل إلى الذنوب تضيع أيامه، حيث تقاس حياة الإنسان الحقيقية بالأوقات التي قضاها في رضا الله -عز وجل-.
- الحرمان من الاعمال الصالحة، لأن الطاعة تتطلب توفيقًا من الله، وبالتالي فإن السير في طريق المعاصي يؤدي إلى التراجع في الأعمال الصالحة.
- الشعور بالذل، حيث يكون العز في طاعة الله ومخالفة الهوى، كما قال سليمان التيمي: (إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته).
- الاهانة من الله ومن الناس، إذ من يُهان في نظر الله -عز وجل- فلا عزة له في الأرض، كما ينزع الله كرامته من أهل المعصية.
- فقدان البصيرة وتضاؤل الغيرة، حيث يبدأ المرء في شيوع القبح واستحسانه، ويدعو الآخرين إليه.
- فقدان النعم، فعلى الرغم من أن النعم تأتي من طاعة الله، فإن الذنوب تمنعها.
- فقدان الحياء، فيصبح العاصي غير مبالٍ بنظرة الناس إلى أفعاله القبيحة.
- التعود على الذنوب، فبعض العصاة يتفاخرون بمعاصيهم دون اعتبار لقبحها.
- الغفلة في القلب، حيث تتزايد الذنوب إلى أن تُصدأ القلب.
- نزول النقم، حيث قال ابن القيم: (ومن تأثير المعاصي في الأرض: ما يحل بها من الخسف والزلازل، ويمحق بركتها، وكثير من هذه الآفات أحدثها الله -تعالى- بما أحدث العباد من الذنوب).
دواء الذنوب والمعاصي
يحتاج الناس إلى معالجة أنفسهم من الذنوب، سواء كانت صغائر أو كبائر. فالذنوب تشبه الأمراض التي يتطلب التعامل معها بحذر والابتعاد عن أسبابها. فقط كما أن الأمراض الجسدية تحتاج إلى علاج، فإن أمراض الذنوب تؤدي إلى إهلاك الروح. وسلامة الروح تُعتبر أهم من سلامة البدن، حيث ترتبط بنجاة العبد يوم القيامة عندما يقترب من الله -عز وجل- بصدق وندم. إن الانكباب على الطاعات يمثل سيراً في طريق عفو الله، وهو الطريق الذي ارتضاه الله -عز وجل- لعباده ومنحه النتيجة المطمئنة. لذلك، ينبغي على العبد ألا يجمع بين ذنبه وبين اليأس من رحمة الله -عز وجل-. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما من عبدٍ يُذْنِبُ ذنبًا فيتوضأُ، فيُحْسِنُ الطُّهورَ ثُمَّ يقومُ فيُصلِّي ركعتينِ، ثُمَّ يستغفرُ اللهَ بذلكَ الذنبِ، إلَّا غُفِرَ لَهُ).