أرى جموعًا غفيرة
أرى جموعًا غفيرة
لكنها تعيش بلا أبواب
يدوي حولها الزمان وكأنما
يدوي حول جندل وتراب
وعندما يستجيبون للزمان، يتنكرون
ويتراشقون بالأشواك والأحْصاب
وقد قضوا على روح الأخوة بينهم
جهلاً وعاشوا عيشة الغرباء
فرحت بهم قوى التعاسة والفناء
وأطماع السالب والغلاب
لعبٌ، تحركها الأطماع واللهو
وصغائر الأحقاد والأسباب
وأرى نفوسًا من دخانٍ جامد
ميتة، كأشباح، وراء الضباب
موتى، نسوا شوق الحياة وعزمها
وتحركوا كتحرك الأنصاب
وخابت بهم لهب الوجود، فما بقوا
إلا كمحتَرِق من الأخشاب
لا قلب يقتحم الحياة، ولا حِجىً
يعلو كعلو الطائر الجواب
بل في التراب الميت، في حزن الثرى
تنمو مشاعرهم مع الأعشاب
وتموت خاملة، كزهرة بائسة
تنمو وتذبل في ظلام الغاب
أبدًا تحدق في التراب ولا ترى
نور السماء، فروحها كتراب
الشاعر الموهوب يهدر فنه
هدراً على الأقدام والأعتاب
ويعيش في كون، عقيم، ميت،
قد شيّدته غباوة الأحقاب
والعالم النحرير ينفق عمره
في فهم ألفاظ ودراسة كتاب
يعيش على رميم القديم المجتوى
كالدود في حميم الرماد الخابي
والشعب بينهما قطيع ضائع
دنياهم دنيا مأكل وشراب
ويل للحساس في دنياهم
ماذا يلاقي من أسى وعذاب!
تسألني عن سبب سكوتي وعدم انتباهي
يقول أبو القاسم الشابي:
تسألني ما لي سكت ولم أهب
بقومي وديجورُ المصائب مظلم
وسيلُ الرزايا جارِف مُتدفّع
غضوب ووجه الدهر أربَدُ أقتَم
سكتُ وقد كانت قناتي غضَّة
تُصغي إلى همس النسيم وتحلم
وقلتُ وقد أصغت إلى الريح مرّةً
فاجتاحت بها إعصارُه المتهزّم
وقلتُ وقد جاش القريض بخاطري
كما جاش صخابُ الأَواذي أَسْحَم
أرى المجد معصوب الجبين مُجدلًا
على حسك الآلام يغمره الدم
وقد كان وضاح الأسرار باسماً
يهبّ إلى الجلّى ولا يتبرم
فيا أيُّها الظلم المُصعِّر خدّه
رويدكَ إنّ الدهر يبني ويهدم
سيثأر للعز المَّحطّم تاجه
رجال إذا جاش الردى فهم هم
رجال يرَون الذل عارًا وسُبَّةً
ولا يرهبون الموت والموت مُقدم
وهل تعتلي إلا نفوسٌ أبية
تصدع أغلال الهوان وتحطم