شعر نزار قباني حول الحب الحزين
علمني حبك… أن أعبر عن حزني، إذ كنت بحاجة منذ زمن طويل إلى امرأة تجعلني أشعر بالألم. امرأة أبكي في حضنها كالعصفور.. امرأة تجمع شظايا روحي المكسورة.
علمني حبك، سيدتي… أسوأ عادات. علمني أن أفتح فنجاني ليلاً لآلاف المرات، وأن أجرب وصفات العطارين، وأطرق أبواب العرافات. علمني أن أخرج من منزلي لأمشي على الأرصفة، أتابع وجهك تحت المطر، وفي أضواء السيارات، بل وحتى في أوراق الإعلانات.
علمني حبك كيف أتيه في الشوارع لساعات، بحثاً عن شعر غجري أحسده كل الغجريات. بحثاً عن وجه، عن صوت، هو كل الوجوه والأصوات. أدخلتني حبك، سيدتي، في مدن الحزن، وأنا لم أعلم قبلك ما هي مدن الحزن. لم أكن أعلم أبداً أن الدموع هي الإنسان، وأن الإنسان بلا حزن هو ذكرى غائبة.
علمني حبك أن أتصرف كالأطفال، أن أرسم وجهك بالطبشور على الجدران، وعلى أشرعة الصيادين، وعلى الأجراس، بل وحتى على الصلبان. علمني حبك كيف أن الحب يغير خريطة الزمان، وأنني عندما أحب، تتوقف الأرض عن الدوران. علمني حبك أشياء لم تكن بحسباني، فعرفت قصص الأطفال ودخلت قصور ملوك الجان، وحلمت بأن تتزوجني ابنة السلطان. تلك العيون… أصفى من ماء الخلجان… وتلك الشفتان… أطيب من زهر الرمان.
وحلمت أنني أستطيع خطفها كالفارس، وحلمت أن أهديها أطواق اللؤلؤ والمرجان. علمني حبك يا سيدتي، معنى الهذيان. علمني كيف يمر العمر من دون أن تأتي ابنة السلطان. علمني حبك كيف أحبك في كل الأشياء: في الأشجار العارية، في الأوراق الصفراء الجافة، في الأجواء الماطرة، في أصغر مقهى نشرب فيه قهوتنا السوداء مساءً.
علمني حبك أن أتوجه لفنادق بلا أسماء، وكنائس وبازارات لا تحمل أسماءً. علمني حبك كيف أن الليل يضخم أحزان الغرباء. علمتني كيف أرى بيروت مباشرة كأنها امرأة تحمل سحر الإغراء، امرأة تلبس في كل مساء أجمل ما تملك من أزياء، وترش العطر على جسدها.
علمني حبك أن أبكي بلا بكاء. علمني كيف ينام الحزن كغلام مقطوع القدمين في طرق (الروشة) و(الحمراء). علمني حبك أن أحزن، وأنا بحاجة منذ عصور لامرأة تجعلني أشعر بالحزن، امرأة تجعلني أبكي في حضنها… مثل العصفور، امرأة تجمع شظايا قلبي كأنها بلور مكسور.
شعر محمود درويش حول الحب الحزين
لم ينتظر أحدًا، ولم يشعر بنقصٍ في الوجود، أمامه نهر رمادي كمعطفه، ونور الشمس يملأ قلبه بالصحوة. والأشجار كانت عالية، ولم يشعر بنقصٍ في المكان، فالمقعد الخشبي، قهوته، وكأس الماء، والغربة، والأشياء في المقهى كما هي، والجرائد ذاتها… أخبار الأمس، وعالم يطفو على القتلى كعادته.
ولم يشعر بحاجة إلى أملٍ ليؤنسه، كأن يتشوق المجهول في الصحراء أو يشتاق ذئب إلى جيتارة. لم ينتظر شيئًا، ولا حتى مفاجأة، لأنه لم يقوَ على التكرار… يعرف آخر المشوار منذ الخطوة الأولى. يقول لنفسه: لم أبتعد عن عالم، ولم أقترب من عالم.
لم ينتظر أحداً… ولم يشعر بنقصٍ في مشاعره، فما زال الخريف هو مضيفه الملكي، يغرّيه بموسيقى تعيد إليه عصر النهضة الذهبي والشعر المقرون بالكواكب والامتداد.
لم ينتظر أحداً أمام النهر، في حال اللامنتظر أكون نهراً، قال لا أقسو على نفسي، ولا أقسو على أحد، وأنجو من سؤال فادح: ماذا تريد؟ ماذا تريد؟
شعر ابن نباتة المصري حول الحب الحزين
أقيما فروضَ الحزن فالوقت وقتها
لشمس ضحىً عند الزوال ندمتُ عليها
ولا تبخلا عني بإنفاق أدمعٍ
ملوّنة أكوا بها إن كنزتها
لغائبةٍ عني وفي القلب شخصها
كأنيَ من عيني لقلبي نقلتها
يقولون كم تجري لجاريةٍ بكىً
وما علموا النعمى التي قد فقدتها
ملكت جهاتي الست فيك محبةً
فأنت وما أخطأ الذي قال ستها
إلا في سبيل الله شمس محاسنٍ
وإن لم تكن شمس النهار فأختها
تعرّفتها دهراً يسيراً فأعقبت
دوامَ الأسى يا ليتني لا عرفتُها
وقال أناسٌ إن في الدمع راحةً
وتلك لعمري راحةٌ قد نكرتها
هل الدمع إلا مقلةٌ قد أذبتها
عليكِ وإلا مهجةٌ قد غسلتها
نصبت جفوني بعد بعدك للدجى
وأما أحاديث الكرى فرفعتها
وقال زماني هاكَ بعد تنعمٍ
كؤوس الأسى والحزن ملآى فقلت ها
بكيتك للحسن الذي قد شهدته
وللشيمِ الغرّ التي قد عهدتها
وروضة لحدٍ حلها غصنُ قامةٍ
لعمري لقد طابت وقد طاب نبتها
وحزن فلاةٍ يممته وإنما
ديارُ الظبا حزنُ الفلاة وموتها
كلانا طريحُ الجسم بالٍ فلو دَرَت
إذاً ندبتني في الثرى من ندبتها
بروحيَ من أخفي إذا زرت قبرها
جوايَ ولو أعلمتها لعققتها
خبية حسنٍ كنت مغتبطاً بها
ولكن برغمي في التراب دفنتها
وآنسة قد كان لي لينُ عطفها
فلم يبق لي إلا نِداها ونعتها
أنادي ثرى الحسناء والترب بيننا
وعزَّ على صمتِ المتيمِ صمتها
كفى حزناً أن لا معين على الأسى
سوى أنني تحت الظلام بعثتها
وتنميق ألفاظٍ عليك رقيقة
كأنيَ من نثر الدموع نظمتها
قضيت فما في العيش بعدك لذّة
ولا في أمانٍ لو بقيتُ بلغتها
سلامٌ على الدنيا فقد رحلَ الذي
تطلبتها من أجله وأردتها
شعر قيس بن الملوح حول الحب الحزين
فَواكِبِدًا مِن حُبِّ مَن لا يَحُبُّني
وَمِن زَفَراتٍ ما لَهُنَّ فَناءُ
أَرَيتِكِ إِن لَم أُعطِكَ الحُبَّ عَنكِ
وَلَم يَكُ عِندي إِذ أَبَيتِ إِباءُ
أَتارِكَتي لِلمَوتُ إِنّي لَمَيِّتٌ
وَما لِلنُفوسِ الهالِكاتِ بَقاءُ
إِذ هِيَ أَمسَت مَنبِتُ الرَبعِ دونَها
وَدونَكِ أَرطىً مُسهِلٌ وَأَلاءُ
فَلا وَصْلَ إِلّا أَن يُقارِبَ بَينَنا
قَلائِصُ في أَذنابِهِنَّ صَفاءُ
يَجُبنَ بِنا عُرضَ الفَلاةِ وَما لَنا
عَليهِنَّ إِلّا وَحدَهُنَّ شِفاءُ
إِذا القَومُ قالوا وِردُهُنَّ ضُحى غَدٍ
تَواهَقنَ حَتّى وِردُهُنَّ عِشاءُ
إِذا استُخبِرَت رُكبانُها لَم يُخَبَّروا
عَلَيهُنَّ إِلّا أَن يَكونَ نِداءُ