قصيدة زارني ذاتَ مساءْ
تقول الشاعرة صباح الحكيم:
زارني ذاتَ مساءٍ طائرٌ جميل الصوت، راح يشدو بشجنٍ، فسألته: ماذا تغني يا طير السماء؟
فأجبني: إنني أعلم أنك تغفو وأنغام الحزن تحيط بك. ثم تابع قائلاً: جئت لأمسح دمعك ولأهديك خيطاً من نور.
فقلت له: وقلبك غارقٌ في آلامه، ابتعد عني، فإن لمست جراحي ستتألم كما أتألم، لن ترى سوى المصائب.
فأجابني: أنا مغرم بك، دعيني بين عذاباتك لأستمد منك القوة لعلها تسمع صوتي في غياهب الشقاء.
فأخبرته: حتماً ستعاني كم أعانى، فإن جراحي تسكن في عيني، إنها تَغفو على راحِ الحزن.
قال: يا حوريتي، لن أغادر، سأروي لك حناناً خالداً ونقاءً. دعيني بين خيالاتك، فلا أبغي غير شفاء الجراح.
قلت: أخشى أن تلمس ورودي، فهي في روض الصفاء. أنا أعلم ما تعاني، أنت تشكُ من ألم الفراق.
فأتيت اليوم لألتقط ثمار الحياة وأحتسي مآسيها، ثم ستنساني عندما يكون الوباء قد جاء لي.
أنت لا ترجو قلبي كما تهوى زهورك، وخريف العمر قد جاء في أرضك.
قال: أرجوكِ ارحمي، واستمعي إلى نبضات قلبي، إنها كالنغم تبكي. أنت عصفور قلبي، ولحن أيامي، وغنائي.
أنت إشراقتي عندما تتلألأ الأضواء، وأنت شمعات المساء. قلت: دعني في عنائي، جئت لتتسلى بفؤادي، ثم ترميني بالمخلفات في الفضاء.
صار يشدو في رياضي ويتغنى في مسائي وصباحي، حاملاً ورد الأقاحي، وفؤادي غارق في ظلمة الحزن.
آه، كم يشتاق لنجمات السماء، لعله يهديه عقداً من فضاء، اقترب مني قليلاً ثم ابتعد بعد اللقاء.
بعدها لملم عني كل وردات الأمان، وأنا وحدي أعاني غربة الروح والدموع والمعاناة.
قصيدة رسالة من المنفى
يقول الشاعر محمود درويش:
تحيّة وقبلة، وليس لدي ما أقول بعد، من أين أبدأ.. وأين أنتهي، ودورة الزمان بلا حدود.
كل ما في غربتي زادٌ، فيه رغيفٌ يابس ووجد. دفتر يحمل عني كل ما أعيق، بصقت في صفحاته ما ضاق بي من حقد.
من أين أبدأ؟ وكل ما قيل وما سيقال بعد غدٍ لا ينتهي بحضنٍ أو لمسة من يدٍ. لا يعود الغريب إلى الديار، لا تتساقط الأمطار، ولا ينبت الريش على جناح طائر ضائع منهد.
من أين أبدأ؟ تحية… وقبلة… وبعدها أقول للمذياع: قل لها أنا بخير. وأقول للعصفور إن صادفتها، لا تنسني وقل: أنا بخير، أنا بخير.
ما زال في عينيّ بصر، ما زال في السما قمر، وثوبي العتيق حتى الآن لم يندثر، تمزقت أطرافه لكنني رتقته ولم يزل بخير.
لقد صرت شاباً جاور العشرين، تصوريني صرت في العشرين، وصرت كالشباب يا أماه. أواجه الحياة: وأحمل العبء كما الرجال يحملون.
وأشتغل في مطعم وأغسل الصحون، وأصنع القهوة للزبون، وألصق البسمات فوق وجهي الحزين ليُفرح الزبون.
قد صرت في العشرين وصرت كالشباب يا أماه. أدخن التبغ وأتكئ على الجدار، أقول للحلوة آه، كما يقول الآخرون (يا إخوتي، ما أطيب البنات، تصوروا كم مرة هي الحياة بدونهن؟)
قال صاحبي: (هل عندكم رغيف؟ يا إخوتي، ما قيمة الإنسان إن نام كل ليلة جوعان؟)
أنا بخير، أنا بخير، عندي رغيف أسمرو، وسلة صغيرة من الخضار. سمعت في المذياع يقول الجميع: كلنا بخير، لا أحد حزين.
فكيف حال والدي؟ ألم يزل كعهده يحب ذكر الله والأبناء والتراب والزيتون؟ وكيف حال إخوتي؟ هل أصبحوا موظفين؟
سمعت يوماً والدي يقول: سيصبحون جميعاً معلمين. سمعته يقول: أجوع حتى أشتري لهم كتاب، لا أحد في قريتي يفك حرفاً في خطاب.
وكيف حال أختنا؟ هل كبرت وجاءها خطّاب؟ وكيف حال جدتي؟ ألم تزل كعهدها تجلس عند الباب تدعو لنا بالخير والشباب والثواب؟
وكيف حال بيتنا؟ والعتبة الملساء والوجاق والأبواب؟ سمعت في المذياع رسائل المشردين للمشردين: كانوا جميعهم بخير، لكنني حزين تكاد أن تأكلني الظنون.
لم يحمل المذياع عنكم خبراً، وحتى إن كان حزيناً. الليل يا أماه كذئب جائع سفاح، يطارد الغريب أينما ذهب.
ماذا جنينا نحن يا أماه حتى نموت مرتين، فمرة نموت في الحياة ومرة نموت عند الموت؟ هل تعلمين ما الذي يملأني بكاءه؟
بي مرضت ليلة وهد جسمي الداء، هل يذكر المساء: مهاجراً أتى هنا ولم يعد إلى الوطن؟
هل يذكر المساء مهاجراً مات بلا كفنه، تحت غابة الصفصاف؟ هل ستذكرين أن الذي رموه تحت ظلك الحزين؟
كأي شيء ميت إنسان، هل تذكرين أنني إنسان وتحفظين جثتي من سطوة الغربان؟ أماه يا أماه، من كتبت هذه الأوراق؟ أي بريد ذاهب يحملها؟
سدّت طريق البر والبحار والآفاق، وأنت يا أماه، ووالدي، وإخوتي، والأهل، والرفاق، لعلّكم أحياء، لعلّكم أموات، لعلّكم مثلي بلا عنوان.
ما قيمة الإنسان بلا وطن، بلا علم، ودون عنوان؟ ما قيمة الإنسان؟
قصيدة السماءُ كئيبةٌ
يقول الشاعر إيليا أبو ماضي:
قال: السماءُ كئيبةٌ وتجهما. قلتُ: ابتسم، يكفي التجهم في السماء.
قال: الصبا ولّى، فقلت له: ابتسم، لن يرجع الأسف الصبا المتصرّما.
قال: التي كانت سمائي في الهوى، صارت لنفسي في الغرام جهنّما.
خانت عهودي بعدما ملكتها قلبي، فكيف أطيق أن أتبسّم؟
قلت: ابتسم، واطرب، فلو قارنتها لقضيت عمرك كله متألّماً.
قال: التجارة في صراعٍ هائل، مثل المسافر كاد يقتله الظمأ.
أو غادة مسلولة محتاجة لدِم، وتنفث كلما لهثت دماً.
قلت: ابتسم، ما أنت جالب دائها وشفائها، فإذا ابتسمت فربما.
أيكون غيرك مجرماً، وتبيت في وجل كأنك أنت صرت المجرما؟
قال: العدى حولي علت صيحاتهم، أأُسرّ والأعداءُ حولي في الحمى؟
قلت: ابتسم، لم يطلبوك بذمهم لو لم تكن منهم أجلّ وأعظما.
قال: المواسم قد بدت أعلامها وتعرضت لي في الملابس والدمى.
وعليّ للأحباب فرضٌ لازمٌ، لكن كفي ليس تملك درهماً.
قلت: ابتسم، يكفيك أنك لم تزل حيّاً، ولست من الأحبة معدماً.
قال: الليالي جرعتني علقماً. قلت: ابتسم، ولئن جرعت العلقما.
فلعل غيرك إن رآك مرنّماً، طرح الكآبة جانباً وترنّم.
أتُراك تغنم بالتبرم درهماً، أم أنت تخسر بالبشاشة مغنما؟
يا صاح، لا خطر على شفتيك أن تتثلما، والوجه أن يتحطما.
فاضحك فإن الشهب تضحك والدجى متلاطمٌ، ولذا نحب الأنجما.
قال: البشاشة ليست تسعد كائناً يأتي إلى الدنيا ويذهب مرغماً.
قلت: ابتسم، مادام بينك والردى شبرٌ، فإنك بعد لن تتبسّما.
قصيدة رحلتُم والمدامعُ في انسكاب
يقول المعولي العماني:
رحلتُم والمدامعُ في انسكاب، وقلبُ يئنّ من هواكم في اكتئاب.
وجسمي من صُدودكم مُعَذّبٌ، فهل من رجوع أو إياب؟
فإن كنتم عزمتم على الارتحال، فقولي: عسى أن أشرح ما بي.
عساكم ترحمونَ قتيل شوق، وأعرف عنكم ردَّ الجواب.
إلى كم أرتجى منكم وصالا، قريباً أم إلى يوم الحساب؟
وأُخبركم بأني مُتهامٍ، حزين القلب منكم يا صحابي.
فإن كان اللقاءُ لنا قريباً، وإلا قد غنيتُ من العتاب.
أما تدرون أني من هواكم، أُكابِد لوعةً وكذاك دابي؟
فما وقفوا ولا رَقُّوا لصبري، ولا رفعوا ولا سمعوا صوابي.
وجَدّوا في المسير وخَلّفوني، أُقلّب جبهتي فوق التراب.
وأجرى الدمعَ من شوقي إليهم، كما تجرى السيولُ من السحاب.
أبيتُ أردّد الزفرات شوقاً، وقلبي من نواهم في التهاب.
إليهم منهمُ ولهم عليهم، فما لي من سواهم من طلاب.
أُسائل عنهم من كل أرض، إلى أن غابَ من جسمي شبابي.
ولمّا قد رأيتُ الشيبَ وافى، رجعت بعزيمتي عن ذي الجناب.
وقمتُ أريد هجواً كل ساعٍ، إلى الخيرات من أهل اللبّاب.
وأمدح في قريضي كلّ ساعٍ، إلى الخيراتِ من أهل اللبّاب.
فمن طلب العطية من بخيل، كمن طلب الشراب من السراب.
ومن طلب العطية من كريم، كمن أَدْلَى دلاه في العُباب.
فلا تسأل بخيلاً عن عطاءٍ، وجانبهُ وعزَّ عن الخِطاب.
سلِ الكُرَماء، لا تسل شحيحاً، منازله بمنزلة الكلاب.
عجبتُ لطالب البُخلا نوالاً، أراك طلبت ظلاً من خراب.
فأي شحيح قومٍ نال عزّاً، من الأزمانِ إلا في عذاب؟
إذا سُئل البخيل يرد قولاً، أتسأل ذاك عن شيء عجاب؟
فلم يزل البخيل حزين قلب، على الدنيا إلى يوم الحساب.
يعزُّ إذا يَتيه الضيف يوماً، ويدخل في الشقا من كل باب.
وإن لا قاه شخصٌ من أُناسٍ، توارى عن لِقاه بالحجاب.
وقال: أظنُّ هذا رامَ رفداً، يُغَطّي وجهه مثل الكَعاب.
لئلاّ ينظرون إليه حتى، تولّى عنه في بعض الشعاب.
فتباً للبخيل ومَن رعاه، ومَن قد عَزّ في طلب الثواب.