أسباب ظهور شعر الزهد
تتعدد الأسباب التي أدت إلى بروز شعر الزهد، وفيما يلي أبرزها:
الفتن والصراعات السياسية
لعبت الفتن والصراعات السياسية دوراً مهماً في بروز شعر الزهد، وخصوصاً خلال العصر الأموي الذي شهد العديد من النزاعات والثورات الداخلية، خصوصاً بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. نتيجة لذلك، اتجه الكثير من الناس إلى التوجه نحو التقوى وترك ملذات الحياة.
التوبة إلى الله تعالى
زادت شهرة شعر الزهد وعُمق معانيه في العصر العباسي، تزامناً مع الانحلال الذي عاشته تلك الحقبة. وقد ظهر شعراء خصيصاً لهذا النوع من الشعر، حيث عبروا عن إشاحتهم عن متع الدنيا في قصائدهم، مُدرجين فيها لمسات من الفلسفة والحكمة.
مناجاة الله تعالى
وصل الزهد لدى بعض الشعراء إلى ذروته، حيث سعوا جاهدين إلى التعبير عن حبهم لله تعالى ومناجاته. وبرزت أشعار الغزل الإلهي، مما ساهم في تطوير هذا النوع الشعري، مثل أعمال الشاعر الحلاج.
ازدهار الحركة العلمية
أدى ازدهار الحركة العلمية في العصر العباسي إلى تعزيز شعر الزهد، حيث سعى العديد من الزهاد إلى اكتساب المعرفة من الكتب والتراجم التي تحتوي على حكم وآداب وفلسفات متوافقة مع الشريعة الإسلامية. وقد ترجموا تلك المفاهيم إلى أبيات شعرية رائعة.
نماذج شعرية في الزهد
إليكم بعض النماذج من شعر الزهد:
الزهد في الشعر الأموي
تظهر نماذج شعر الزهد في العصر الأموي كما يلي:
- قصيدة “علمت وما الإسراف من خلقي” للشاعر عروة بن أذينة.
يقول فيها:
لا خَيرَ في طَمَعٍ يُدني لِمَنقَصَةٍ
وَغُبَّرٍ مِن كَفافِ العَيشِ يَكفيني
لا أَركَبُ الأَمرَ تُزري بي عَواقِبُهُ
وَلا يُعابُ بِهِ عِرضي وَلا ديني
كَم مِن فَقيرٍ غَنِيِّ النَفْسِ تَعرِفُهُ
وَمِن غَنِيٍّ فَقيرِ النَفْسِ مِسكينِ
وَمِن عَدُوٍّ رَماني لَو قَصَدتُ لَهُ
لَم يَأخُذِ النِصفَ مِنّي حينَ يَرميني
وَمِن أَخٍ لي طَوى كَشحاً فَقُلتُ لَهُ
إِنَّ اِنطِواءَكَ عَنّي سَوفَ يَطويني
إِنّي لَأَنطُقُ فيما كانَ مِن إِرَبي
وَأُكثِرُ الصَمتَ فيما لَيسَ يَعنيني
لا أَبتَغي وَصلَ مِن يَبغي مُفارَقَتي
وَلا أَلينُ لِمَن لا يَشتَهي ليني.
- قصيدة “باسم الذي أنزلت من عنده السور” لعبيد الله بن عتبة.
يقول فيها:
باسم الذي أُنزِلت من عِندِه السُّوَرُ
والحَمدُ للهِ أمَّا بَعدُ يا عُمَرُ
إن كنتَ تَعلَمُ ما تأتي وما تَذَر
فَكُن على حَذر قد يَنفَعُ الحَذَرُ
واصبِر على القَدَرِ المَجلُوبِ وارضَ به
وإن أتاك بِمَا لا تَشتَهِي القَدَرُ
فَما صَفا لامرِئٍ عَيشٌ يُسَرُّ به
إلا سيتبَعُ يوماً صَفوه كَدَرُ
واستَخبِرِ الناسَ عمّا أنت جَاهلُه
إذا عَمِيتَ فقد يَجلو العَمَى البَصَرُ
قَد يَرعَوِي المرءُ يوماً بعد هَفوَته
وتحكُم الجاهلَ الأيامُ والعِبَرُ
إن التُّقَى خَيرُ زادٍ أنت حامِلُهُ
والبرُّ أفضلُ شيءٍ نَالَه بَشَرُ
الزهد في الشعر العباسي
تشمل نماذج شعر الزهد في العصر العباسي ما يلي:
- قصيدة “سبحان علام الغيوب”.
يُعتبر الشاعر أبو العتاهية رائد شعر الزهد في الأدب العربي، خاصة في العصر العباسي، إذ تُعد أشعاره من أجود وأجمل ما كُتب في هذا النوع، حيث يقول:
سُبحانَ عَلّامِ الغُيوبِ
عَجَباً لتَصريفِ الخُطوبِ
تَعرو فُروعَ الآمِنيــنَ
وَتَجتَني ثَمَرَ القُلوبِ
حَتّى مَتى يا نَفسُ تَغتَرّينَ
بِالأَمَلِ الكَذُوبِ
يا نَفسُ توبي قَبلَ أَن
لا تَستَطيعي أَن تَتوبي
وَاستَغفِري لِذُنوبِكِ الرَ
حمَنَ غَفّارَ الذُنوبِ
أَمّا الحَوادِثُ فَالرِيا
حُ بِهِنَّ دائِمَةُ الهُبوبِ
وَالمَوتُ خَلقٌ واحِدٌ
وَالخَلقُ مُختَلِفُ الضُروبِ
وَالسَعيُ في طَلَبِ التُقى
مِن خَيرِ مُكتَسَبِ الكَسوبِ
وَلَقَلَّ ما يَنجو الفَتى الـ
ـمَحمودُ مِن لَطخِ العُيوبِ.
- قصيدة “يارب إن عظمت ذنوبي كثرة” لأبي نواس.
يقول فيها:
يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً
فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ
فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ
أدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً
فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا
وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ.
شعر الزهد في العصر الأندلسي
يتضمن شعر الزهد في العصر الأندلسي ما يلي:
- قصيدة “يا ذنوبي ثقلت والله ظهري” للشاعر ابن حمديس.
يقول فيها:
يا ذنوبي ثَقّلْتِ واللّه ظَهْري
بانَ عُذْري فكيفَ يُقْبَلُ عذري
كلَّما تُبْتُ ساعةً عُدْتُ أُخرى
لِضُروبٍ من سوءِ فِعلي وهُجري
ثَقُلتْ خَطْوَتي وفَوْدي تَفَرّى
غَيْهَبُ اللَّيلِ فيه عن نُورِ فجرِ
دبَّ مَوْتُ السّكونِ في حركاتي
وخَبَا في رمادِهِ حُمْرُ جمري
وأنا حيثُ سرْتُ آكلُ رزقي
غير أنّ الزمانَ يأكل عمري
كلَّما مَرَّ مِنهُ وَقتٌ بِربحٍ
من حياتي وجدتُ في الرِّبحِ خسري
كلَّما مَرَّ مِنهُ وَقتٌ بِربحٍ
عِلْمُهُ باختلافِ سرّي وجهري
مِلْ بقلبي إلى صَلاحِ فسادي
منه واجبرْ برأفةٍ منك كسري
وأَجِرْني ممّا جَناهُ لِساني
وتَناجتْ به وساوسُ فِكري.
- قصيدة “سكنتك يا دار الفناء مصدقا” لأمية الداني.
يقول فيها:
سَكَنتُكِ يا دارَ الفَناءِ مُصَدِّقا
بِأَنّى إِلى دارِ البَقاء أَصيرُ
وَأَعظَمُ ما في الأَمرِ أَنّي صائِرٌ
إِلى عادِلٍ في الحُكمِ لَيسَ يَجورُ
فَيا لَيتَ شِعري كَيفَ أَلقاهُ بَعدَها
وَزادي قَليلٌ وَالذُنوبُ كَثيرُ
فَإِن أَكُ مُجزيّاً بِذَنبي فَإِنَّني
بِحَرِّ عَذابِ المُذنِبينَ جَديرُ