تذكر أخي بعد انقضاء الليل
تقول الخنساء:
ذكرتُ أخي بعد انقضاء نوم الخلِي
فانحدر الدمع مني انحدارًا
وخيولٍ جُهزت لأبطالها
كان حملها عظيمًا وأبيدت قومًا تدميرًا
تجوب برماحها الفيافي
وتقبض الكبش من ذلك اهتضارًا
فألقتهم تحت وطأة الحرب
وأرسلت مهرًَا فيها غارةً
تحسبه قافلاً إذا ائتلفت نار المعركة
فذلك في الجدية مَكروه
وأما في السلم فتبتهج وتروّح الأخصر
وباتت هاجرة حرها صاخب
جعلت رداءك فيها خمارًا
لتدرك شأوًا على قربه
وتكتسب مدحًا وتحمي الذمار
وتروي السنان وتردي القائم
كمرجلٍ للطباخ حين تفور
وتغطي الخيول بحياض النجيع
وتغدق بالعطاء وتردي النعام
كأن القتود إذا شدها
على ذي وسومٍ تسابق صوار
تملك في دفء أرطاتها
هاج العشي عليه فثار
فدار وإذا رأى سربها
أحس قنصًا قريبًا فطار
يشق قميصه هاجراً
من الشد حين اجتهد الفرار
فبات يقنص أبطالها
وينفصل الماء منه انصهارًا
أخي
يقول الدكتور ياسر الدرويش:
أخي، إن غلقت الدنيا
طريق الغربة القاسي
وفَرَّق بيننا موجٌ
من الإعسار والباس
ولاح عودة المنتظر بين الطور والناس
فلا تنسَ الذي ولّى
فليس أخوك بالنّاسي
أخي، قد هدمت الأسف
جسم الشامخ الرّاسي
وعادت عاديات الشائنة
فوق الفود والرّاسي
ومرآتي تطلعني
بوجهٍ متعب قاسي
تريني إذ أقلبها
بقايا عد أنفاسي
أخي، قد مرت الأيام
بين الموج والماس
ولم أمسك سوى زبدٍ
ورملٍ بين أرمَاس
وأفكار تسلمني
لوسواسٍ وخناس
وعُدت بغير أجنحةٍ
كعباس بن فرناس
أخي، إن ودع العالم
شتاءً بعد أقراص
وزيّن عُشه الحسنو
بين النّدّ والآس
ومال الغصن منثنيًا
بأكمام وأجراس
ترقّب عودتي فجرًا
فقد أشرقت أفراسي
أخي، إني على شوقٍ
لللقيا الأهل والنّاس
للثم الأرض في وطنٍ
يرافقني كإحساسي
إلى أمي، ووجه أبي
وزيوني، وأغراسي
أتحسب أنني أنسى
ويحصي الله أنفاسي؟
يؤرقني التذكر حين أمسي
تقول الخنساء:
يؤرقني التذكر حين أُمسي
فأصبح وقد بليت بفرط نكسٍ
على صخرٍ وأي فتىً كصخرٍ
ليوم كريهة وطعانٍ حلسٍ
وللخصم الألدُّ إذا تعدّى
ليأخذ حق مظلومٍ بقنسٍ
فلم أرَ مثله رزءًا لجنيٍ
ولم أرَ مثله رزءًا لإنسيٍ
أشدّ على صروف الدهر أيدًا
وأفصل في الخطوب بغير لَبسٍ
وضيفٍ طارٍ أو مستجيرٍ
يروّع قلبه من كل جرسٍ
فأكرمه وآمنه فأمسى
خليًا باله من كل بؤسٍ
يذكرني طلوع الشمس صخراً
وأذكره لكل غروب شمسٍ
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
ولكن لا أزال أرى عجولًا
وباكيةً تنوح ليوم نحسٍ
أراها والهةً تبكي أخاها
عشيّة رزئه أو غبّ أمسٍ
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزّي النفس عنه بالتأسي
فلا والله لا أنساك حتى
أفارِقَ مهجتي ويشقَّ رمسي
فقد ودعت يوم فراق صخرٍ
أبي حسان لذاتي وأُنسي
فيا لهفي عليه ولهف أمي
أَيُصبح في الضريح وفيه يُمسِيني
يا جندب، أخبرني ولست بمخبرٍ
يقول ضمرة النهشلي:
يا جندب، أخبرني ولست بمخبرٍ
وأخوك ناصحك الذي لا يكذبُ
هل في القضية أن إذا استغنيتم
وأمنتم فأنا البعيد الأجنبُ
وإذا الشدائد بالشدائد مرةً
أشجتكم فأنا المحب الأقربُ
وإذا تكون كريهة أُدعى لها
وإذا يُحاس الحيس يُدعى جندبُ
ولجندب سهل البلاد وعذبُها
ولي الملاح وخبتهن المجدبُ
عجب لتلك قضية وإقامتي
فيكم على تلك القضية أعجبُ
هذا وجدكم الصغار بعينه
لا أم لي إن كان ذاك ولا أبُ
البدر الآفل
يقول إيليا أبو ماضي:
أبعدك يعرف الصبر الحزين
وقد طاحت بهجته المنون؟
رمتك يد الزمان بشرّ سهم
فلما أن قضيت بكى الخؤون
رماك وأنت حبّه كل قلب
شريف، فالقلوب له رنين
ولم يك للزمان عليك ثار
ولم يك في خلالك ما يشين
ولكن كنت ذا خلق رضيّ
على خلق لغيرك لا يكون
وكنت تحيط علمًا بالخفايا
وتمنع أن تحيط بك الظنون
كأنك قد قتلت الدهر بحثا
فعندك سره الخافي مبين
حكيت البدر في عمر ولكن
ذكاؤك لا تكونه قرون
عجيب أن تعيش بنا الأماني
وأنّا للأماني نستكين
وما أرواحنا إلا أسارى
وما أجسادنا إلا سجون
وما الكون مثل الكون فان
كما تفنى الديار كذا القطين
لقد علقتك أسباب المنايا
وفيّا لا يخان ولا يخون
أيدري النعش أيّ فتى يواري
وهذا القبر أيّ فتى يصون؟
فتى جمعت ضروب الحسن فيه
وكانت فيه للحسنى فنون
فبعض صفاته ليث وبدر
وبعض خلاله شمم ولين
أمارات الشباب عليه تبدو
وفي أثوابه كهل رزين
ألا لا يشمت الأعداء منا
فكل فتى بمصرعه رهين
أيا نور العيون بعدت عنّا
ولمّا تمتليء منك العيون
وعاجلك الحمام فلم تودّع
وبنت ولم يودعك القرين
وما عفت الوداع قلى ولكن
أردت ولم يرد دهر ضنين
فيا لهفي لأمك حين يدوّي
نعيّك بعد ما طال السكون
ولهف شقيقك النائي بعيدًا
إذا ما جاءه الخبر اليقين
ستبكيك الكواكب في الدياجي
كما تبكيك في الروض الغصون
ويبكي إخوة قد غبت عنهم
وأم ثاكل وأب حزين
فما تندى لنا أبدا ضلوع
عليك، وما تجف لنا شؤون
قد ازدانت بك الفتيان طفلاً
كما يزدان بالتاج الجبين
ذهبت بزينه الدنيا جميعًا
فما في الدهر بعدك ما يزين
وكنت لنا الرجاء فلا رجاء
وكنت لنا المعين فلا معين
أبعدك، يا أخي، أبغي عزاء
إذا شلّت يساري واليمين؟
يهون الرزء إلا عند مثلي
بمثلك فهو رزء لا يهون
عليك تقطع الحسرات نفسي
وفيك أطاعني الدمع الحرون
فملء جوانحي حزن مذيب
وملء محاجري دمع سخين
وما أبقى المصاب على فؤادي
فأزعم أنّه دام طغين
يذود الدمع عين عيني كراها
وتأبى أن تفارقه الجفون
لقد طال السهاد وطال ليلي
فلا أدري الرقاد متى يكون
كأن الصبح قد لبس الدياجي
عليك أسى لذلك ما يبين