شوق يتسلل بين الأضلع
- يقول البحتري:
شَوْقٌ بَيْنَ الأضَالِعِ، هاجسٌ يحوم،
وَتَذكُرٌ يختلجُ النَّفْسَ ويؤرجِحُها.
ولعل الفتى ينجو من همومه،
ومرابطه في ليلٍ حالكٍ يُخيم.
ما أنصفت بغداد حين اشتدت وحشتها،
فقد باتت المحلُّ للمغتربين.
لم يرع لي حق القربى طيئٌ،
ولا حق الصداقة فارسٌ.
أعلِ من يأمل منك بعد تلك الوداعة،
قد ضيعتها منك، فأنا آيِس.
أوعدتني يوم الخميس، وقد مضى،
من بعد موعدك الخميس الخامس.
قل للأمير، فإنه القمر الذي،
ضحكت به الأيام، وهي عابسَة.
قدمت لي رجالاً، جميعهم،
متخلفون عن غايتي، متقاعسون.
وأذللتني حتى أني قد أشمت بي،
من حسدوا مني، وتنافسوا.
وأنا الذي أوضحت، غير مدافع،
نهج القوافي، وهي رسمٌ راسخ.
بين الغياب والحضور
- تقول سعدية مفرح:
تغيبُ …
فتتلاشى تلك التفاصيل التي نجهل كيف تأتي نثراً وتغيب سريعاً،
كسرِبٍ طائرٍ عالقٍ في شراك النوى، فتجتاح،
صمتي الغريب المريب، وتغالب وجداني.
هذا الصمت ينوحُ ولا يثير إذ مغريات.
القَطا المُختار عبر فيافي الضنى قد تلوح،
بجبهة مهري، جموحٍ صبوح.
يقرع غيابُك جرس وجودي،
فيُلغيه.
وحين تغيبين، يجمع حزني أطرافه نافذاً،
ويغرقُ فيَّ.
ويَمُتدُّ حين تأتي،
فأغرقُ فيه.
ألا بَرْزَخٌ بين هذا وذاك،
نمارسُ فيه لا حزنَنا في جانبَيْه؟
تغيبُ …
فأُسير خيول ظنوني.
غيابك نهر ملتهب،
وحين يُحَدثُ،
أخضبُ كل عرائس شوقي ملائك حب، وأفرشُ،
كل عرائش قلبي لأرائك لعب، فأجلوهن.
وألبسهن خلا خيولهن وإبرازهن نهاراً.
يصرن شموساً يراقصن موجك منحلة،
بهذا النديم الرفيع، وينثرن حنائهن الجميل،
طيوراً على الماء تنقُرُ على صفحات خضراء وتُشعل،
سبع شمعاتٍ فيض الهدهد، صلاوةً
لطقس النخيل الغارق بالعُود والورد والرائحة والطلال.
الموسمي البليل، والخلاخيل هذه التي فضَّت ليلَ
وجهك تدعو كسبعٍ،
فهل ستفيض، وقد جفَّ مائي؟
وحين تغيب،
يكون حضور غيابك أشهى، وحين يُغيب،
يكون حضورك أبهى. فكيف،
يكون الحضور غياباً، وكيف يكون الغياب،
حضوراً، والغياب سراب الذكريات؟
جرح الغياب
وليس لذاكرتي أن تغيب.
شوق بدأ بعد انقطاع
- يقول امرؤ القيس:
سما لك شوق، بعدما كان أقصر،
وحلت سليمي في بطنِ قَوّ، فعرعرا.
كِنَانِيَّةٌ بانت وفي الصدر ودُّها.
ورائحة سَنًا في حقّة حِمْيَرِيَّةٍ،
بعيني ظعن الحي حين تحطّوا.
لدى جانب الأفلاج من جنب تيمُرَا،
فشبهتهم في الأهل حين تكدسوا.
حدائق دوم أو سفيناً مقيرا،
أو المُكرّعات من نخيل ابن يامن.
دون الصفا اللائي يلين المشقرا،
سوامق جبار أثيث فروعه،
وعالين قنواناً من البسر أحمرا.
حمته بنوا الربداء من آل يامن،
بأسيافهم حتى أقر وأوقرا.
وأرضى بني الربداء واعتمّ زهوه،
وأكمامه حتى إذا ما تهصرا.
أطاف به جيلا عند قِطَاعهِ،
تتردد فيه العيون حتى تحيّر.
كأن دمى شغف على ظهر مرمر،
كسا مزبد الساجوم وشياً مصورا.
غَرَائِرُ في كِنٍ وصونٍ ونعمةٍ،
يحلين يا قوتاً وشذراً مفقرا.
وريح سَنا في حقه حميرية،
تکَخص بمَفروكٍ منَ المسك أذفرًا.
وباناً وألويا من الهند داكياً،
ورنداً ولُبنى والكِبَاءِ المقترا.
غلقن برهنٍ من حبيبٍ به ادعت،
سليمى فأمسى حبلها قد تبترا.
شوق يفيض بالأدمع
- يقول البحتري:
شَوْقٌ إليكِ، فَيضُهُ الأدمعُ،
وَجَوًى عَلَيكِ، تضيقُ مَعَه الأضلعُ.
وَهَوًى تُجَدّده الليالي، كلما
قدمتْ، وتُرجعه السنينُ، فيرجعُ.
إنّي، وما قَصَدَ الحَجيجُ، وَدونَهم
خرقٌ تُغشّي بها الرّكابُ وتضعُ.
أصفيكِ أقصى الوُدّ، غيرَ مقلّلٍ،
إن كان أقصى الوُدّ عندكِ ينفعُ.
وأراكِ أحسن مَن أرَاه، وإن بدا
مِنكِ الصدود، وبان وصلكِ أجمعُ.
يعتادني طربٌ إليك، فيغتلي
وجدي، ويَدْعُوني هوَاكِ، فأتبعُ.
كَلِفٌ بحُبّكِ، مُولَعٌ، ويسرّني
أنّي امرؤٌ كَلِفٌ بحُبّكِ، مُولَعُ.
شَرَفاً بَني العَبّاسِ، إن أبَاكُمُ
عَمُّ النبيّ، وَعَيْصُه المُتَفَرّعُ.
إنّ الفَضِيلَةَ للذي اسْتَسقَى بهِ عُمَرٌ،
وشُفّعَ، إذ غدا يُستَشفَعُ.
وأرَى الخلافة، وهي أعظم رُتبةٍ،
حقاً لكم، وَوِرَاثَةً مَا تُنْزَعُ.
أعطاكم الله عَنْ علمٍ بِكُمْ،
والله يُعْطي مَنْ يَشَاءُ ويمنعُ.
مَنْ ذَا يُسَاجِلُكمْ، وَحَوْضُ مُحَمّدٍ
بِسِقَايَةِ العَبّاسِ فيكُمْ يَشفَعُ.
مَلِكٌ رِضَاهُ رِضا المُلُوكِ،
وَسُخطه حَتْفُ العِدى، ورَداهُم المتوقَّعُ.
مُتكرّمٌ، مُتَوَرَّعٌ عَنْ كل ما
يَتَجنّبُ المتكرّم المُتَوَرّعُ.
يا أيها المَلِكُ الذي سَقَتِ الوَرَى،
مِن رَاحَتَيِهِ، غمامةٌ ما تُقلعُ.
يَهْنِيكَ في المُتَوَكّلِيَّةِ أنّهَا
حَسُنَ المَصيفُ بها، وطابَ المَربَعُ.
فَيْحَاءُ مُشْرِقَةٌ يَرِقُّ نَسيمُهَا،
مِيثٌ تُدَرّجُه الرّياحُ وأجْرَعُ.
وَفَسيحَةُ الأكْنَافِ ضَاعَفَ حُسنَها،
بَرٌّ لَهَا مُفْضًى، وبَحْرٌ مُتْرَعُ.
قَد سُرّ فيها الأوْلِياءُ، إذ التَقوا
بِفِنَاءِ مِنْبَرِهَا الجَديدِ، فَجُمّعُوا.
فَارْفَعْ بدار الضّرْبِ باقي ذِكْرِها،
إنّ الرّفيعَ مَحَلُّهُ مَن تَرْفَعُ.
هَلْ يَجْلُبَنّ إليّ عَطْفَكَ مَوْقِفٌ
ثَبْتٌ لَدَيكَ، أقُولُ فيهِ وَتَسْمَعُ.
مَا زَالَ لي مِنْ حُسنِ رَأيِكَ مُوْئلٌ.
آوِي إلَيهِ مِنَ الخُطُوبِ، وَمَفزَعُ.
فَعَلاَمَ أنكَرْتَ الصّديقَ، وأقبَلَتْ
نَحوِي رِكابُ الكَاشِحِينَ تَطَلَّعُ.
وَأقَامَ يَطمَعُ في تَهَضّمِ جَانِبي،
مَن لم يكُنْ، من قَبْلُ، فيهِ يَطمَعُ.
إلا يَكُنْ ذَنْبٌ، فعَدْلُكَ وَاسعٌ،
أوْ كَانَ لي ذَنْبٌ، فَعَفْوُكَ أوْسَعُ.
غيابك قضاء محتوم
- يقول ياسر الأقرع:
من الليل أصحو ..
تنزف جروحي.
وأصرخ: أنتِ
بلا وعي روحي،
أفتش عنكِ،
وأغضب منكِ،
كما لا أريدُ.
أحس الفراغ اختناقاً ..
أعودُ …
كمسّ الجنون،
أجرح باسمك صمت السكونِ.
ألم تسمعيني!؟
إذا أنتِ غبتِ،
تصير المنافي ضفافاً لحزني.
تسيرُ الجهاتُ إلى اللاجهاتِ،
تضيق البلادْ.
إذا أنت غبتِ،
يُضَيَّعُ عمر من الأمنياتِ،
ولا يُستعادْ.
إذا أنتِ غبتِ .. وحيدين نبقى …
أنا .. والرمادْ.
ضجرتُ
من الليل ينسج صمتاً،
ويقطر موتاً.
ومنّي ضجرتُ،
فماذا أقول .. لموّال صبري،
على باب قبري؟
أقول … انهزمتُ!؟
ومن أين آتي ..
بضحكة عينيكِ؟
من أين آتي ..
بوجهك يُشرق في عمق روحي؟
إذا ما انكسرتُ،
من الليل أصحو .. تنزف جروحي،
وينزف وقتٌ،
وأصرخ: “أنتِ …… “
فتهمس روحي:
غيابك موت،
غيابك موت،
غيابك موت.