زيارة الأموات – للشاعر صلاح عبد الصبور
في يوم العيد، قمنا بزيارة موتانا وشرعنا في قراءة فاتحة القرآن. كانت هناك أهداب الذكريات تحفنا، بسطناها في أحضان المقبرة الريفية. جلسنا، وكسرنا الخبز وتشاركنا الشجون، وذرفنا الدموع والتنهيدات. صافحنا أنفسنا وتواعدنا، نحن ذوي قربانا، على أن نلتقي بموتانا في العيد المقبل.
يا موتانا، كانت أطيافكم تخترق حقول القمح الممتدة بين تلال القرية حيث يرقد الأموات. وكانت الأبنية المتدنية عند سفح الأجران تسلمكم نسائم الليل التي تحمل ريشًا سحريًا. كنا ننتظر موعدكم بشوق واطمئنان، حين تتلاشى الأصوات، ويتجمد نور المصباح الزيتي على الجدران.
سنشعر بطراوة أنفاسكم حول الموقد، وسنستمع لطقطقة الأصوات كمشي ملاك وسنراجع أنفاسنا. هل جئتم لتعزيز وحدتنا؟ هل نمنحكم جزءًا من نفوسنا؟ هل نجد فيكم دفءًا من برودة الليل، حتى يتألق فجر جديد وتتجاوب ديكة البلدة؟ فنقول لكم بصوت مختلج بعرفان الجميل: عودوا يا موتانا لنستكن في زوايا الساعات المتعرجة، ونلتقي فيها، قد لا تسد جوع شوق أو تروي ظمأ، لكن تذكارات منكم ستكفي حتى نراكم الليلة البعيدة.
لقد مرت أيام وسنوات يا موتانا، وكانت شمس الحاضر قاسية وصارمة، لم تعزز الأوقات جذورنا في لهب الأيام، حتى أصبحنا كالأحطاب المحترقة، وجفَّت الدموع المدفونة على خد الورق العطشان. نعتذر يا موتانا، فنحن لم نعد نلقاكم إلا في أيام الأعياد. لن تدركوا أننا أصبحنا كالأحطاب الملقاة بين صخور الشوارع. أصبحتم غائبين عنا، رغم حبنا المتلهف. قد نتذكركم مرات عدة طوال العام كما نتذكر أحلامًا لم تُبصر النور، لكن ضجيج الحياة الحاضرة لا يترك لنا متسعًا لقراءة فاتحة القرآن أو لطباعة ملامحكم في ذاكرتنا.
يا موتانا، كنتم القوة التي تعزز القلب في أوقات الحاجة، لا تنسونا مهما كانت الظروف حتى نلتقي بكم من جديد.
حرية أكبر – للشاعر قاسم حداد
في حالة من الحرية، كنت أُقيم علاقتي مع الكلمات. في حبر جحيمك اللذيذ، كنت أغمس ريشتي وأكتب. كنت أول من يقرأ نزف كلماتي. ولكن فجأة، أخذوني من أحضانك، ومنعوا عني الأقلام والأوراق. أبعدوني عن كتبي ودفئك الذي يضيف جمالاً لكلماتي.
وجدت أصابعي تتلمس في ظلام الزنزانة طرقًا تتألق وتؤدي إلى الكلمة. لم أعد بحاجة إلى الأقلام والأوراق، بل أصبحت قلوب رفاقي دفاتر تقرأ وتحتضن. في حالة من حرية أكبر، أُقيم علاقات مع الأفق، وحيثما كنت، سواء في البحر أو الصحراء أو الغابة الحجرية أو الغيبوبة، لا تفارقني الشعر. فالشاعر يحتاج فقط إلى شوقٍ في القلب لكي يتدفق. وأنا لا أحتاج لشيء سوى وجودك، فأنت شوقي الملتهب الذي يضيء كالألق في كلماتي.
عن الإنسان – للشاعر محمود درويش
وضعوا القيود على فمه، وقيدوا يديه بصخرة الموتى، وقالوا: أنت قاتل. أخذوا طعامه وملابسه وراياته، وألقوه في زنزانة الموتى، قائلين: أنت سارق. طردوه من كل المرافئ، وأخذوا حبيبته الصغيرة، ثم قالوا: أنت لاجئ.
يا دامي العينين والكفين، إن الليل سيتلاشى، لا يبقى مكان للاحتجاز، ولا تزال القيود. نيرون قد مات، لكن روما لم تمت. في عينيك تتقاتل الأمل، وحبوب سنبلة تجف تُزيد الوادي بالإنتاج.
الآن في المنفى – للشاعر محمود درويش
الآن، في المنفى، نعم في المنزل، في الستين من عمر سريع، يضيئون الشموع لك. احتفل، بأقصى ما تستطيع من الهدوء، فموت طائش قد ضل الطريق إليك من جراء الزحام، وأجّلك قمرٌ فضوليٌ يضحك كالأحمق على الأطلال، فلا تصدق أنه يأتي ليستقبلك.
هو في وظيفته القديمة، مثل آذار الجديد الذي أعاد للأشجار أسماء الحنين. عُد لتحتفل مع أصدقائك بانكسار الكأس. في الستين لن تجد الغد الذي تحتفظ به على كتف النشيد، ويحملك. قل للحياة، كما يفترض بشاعر متمرس: سيري ببطء كالألوان الواثقة بسحرها، وحتماً، لكل واحدة نداؤها: هيت لك/ ما أجملك. سيري ببطء، يا حياة، لكي أراك في اكتمال النقصان حولي، كم نسيتك في انشغالي باحثًا عني وعنك، وكلما أدركت سرًا منك، أقول بقسوة: ما أجهلك. قل للغياب: نقصتني، وأنا هنا لأكتمل.